مؤتمر “فكر17” يناقش تجديد النظر في مفاهيم الدولة والموَاطنة والعلوم الإنسانية والاجتماعية
تواصلت فعاليّات مؤتمر فكر17 لليوم الثاني على التوالي، وذلك بالشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، وعُقدت ثلاث جلسات متخصّصة، ناقشت السياسات التربوية الجديدة، ودور العلوم الإنسانية والاجتماعية في تجديد الفكر العربي، فضلاً عن تجديد النظر في مفاهيم الدولة والموَاطنة.
بدأت أولى الجلسات المتخصّصة في مؤتمر فكر 17 بإدارة رئيس مجلس الأمناء في مركز دراسات الوحدة العربية الدكتور علي فخرو، الذي ركّز على الدور الذي يجب أن يقوم به قطاع التربية والتعليم في العالم العربي، بهدف المساهمة في ولادة فكر عربي جديد.
وأشار أوّل المتحدّثين في الجلسة مدير عام مكتب التربية العربي لدول الخليج الدكتور علي القرني إلى أنّنا في العالم العربي نضع دائماً العربة أمام الحصان، وهذا عكس ما يجب أن يحدث، على الرغم من أنّ التعليم عندنا على رأس أولويات القيادات السياسية، والإنفاق على التعليم كبير، كما أنّ نسبة ذكاء الطلّاب العرب، لا تقلّ عن المعدّلات العالمية بل قد تتفوّق على بعضها، إلا أنّ نسبة الأمّية في العالم العربي من أعلى النّسب، ومعدّل أداء الطلبة العرب في الاختبارات الدولية متدنّ جداً.وقدّم القرني إجابات عن أسئلة عدّة وضعها حول بحثه، مؤكداً أنّ التعليم لا يتطوّر من فراغ، بل يحتاج إلى فكر، داعياً إلى دعم الترجمة وتطويرها بشكلٍ مستمرّ، ومركّزاً على دور المجتمع ومؤسّساته في عملية تطويرالتعليم.
ورأت أستاذة الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتورة نيفين مسعد أنّ خطيئة التفكير هي أفضل ألف مرّة من براءة عدم التفكير، بحسب قول شيخ التربويّين الدكتور حامد عمّار، لتبدأ الحديث عن احترام حقّ الآخرين في الاختلاف، مشدّدة على أهمية التفكير الذي ينبع من الاقتناع بأنّ التفكير هو مفتاح التغيير، وبالتالي حين تنظّم مؤسّسة الفكر العربي مؤتمرها “فكر17” تحت عنوان “نحو فكر عربي جديد” فإنها تخطو خطوة مهمّة في الاتّجاه ذاته.
وتناولت مسعد أربعة محاور هي: العولمة كإطار للترابط والتفكيك، اليونسكو والألكسو وقيمة الحقّ في الاختلاف، سياسات التربية على احترام حقّ الاختلاف – اتجاهات عامّة، والتربية على احترام حقّ الاختلاف، كيف السبيل؟ وااختتمت بالتأكيد على التلازم بين ديمقراطية التعليم وديمقراطية المجتمع.
رئيس جمعية اللّسانيات في المغرب الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، قدّم ورقة حول “تجديد الفكر اللغوي العربي بتجديد الرؤى و الأدوات”، فأكّد أنّ الفكر العربي اللغوي يعاني من الركود على المستوى النظري والعملي، وعدم مواكبة المرجعيات العصرية، من مفاهيم وأدوات ومعايير عبر العلوم اللسانية والمعرفية المختلفة، وأدوات السياسة اللغوية القائمة على العدالة والحقوق والديموقراطية وطرق التعليم العصرية.
وأكّد أنّنا لا نجدّد في أدواتنا التعليمية القديمة، موضّحاً أنّ هناك الكثير من الموروثات والمفاهيم الجاثمة على تعليمنا وتصوّراتنا التعليمية. وركّز على خمس نقاط رئيسة هي: أولويّة اللغة المواطنة (العربية)، أهمّية اللغة الكونية المشتركة (الإنجليزية)، إعادة بناء السياسات اللغوية والثقافية في التعليم، العربية لغة متعدّدة المراكز ولغة العالم، وماذا عن التنوّع في اللغة أو اللغات المواطنة؟
ثم تحدّثت أستاذة التقنيّات التعليمية الدكتورة مرفت بابعير عن تجربة مدارس جامعة الأميرة نورة عبر مشروع “تمام”، الذي أطلقه صاحب السموّ الملكي الأمير خالد الفيصل، وهو مشروع بحثي تطويري للإصلاح التربوي نابع من المدرسة، ويعتمد على الأبحاث للوصول إلى التطوير المدرسي الفعّال والمستدام، ويؤكّد أنّ المعرفة التربوية ليست حكراً على الباحثين في الجامعات، وأنّ هناك مخزوناً ثريّاً ينبغي بلورته.
تجديد النظر في مفاهيم الدولة
وعقدت الجلسة المتخصّصة الثانية ضمن مؤتمر فكر 17 تحت عنوان “تجديد النظر في مفاهيم الدولة والمواطنة والمشاركة” تناول فيها المتحدّثون ما يحتاجه الفكر من بيئة مؤاتية حتى ينمو ويتطوّر، وضرورة الأخذ في الاعتبار المبادىء والقواعد التي تحقّق العدالة والإنصاف، واحترام الحريّات الشخصية والعامّة، والمساواة في الحقوق.
وتحدّث عضو المجلس الأعلى للاتّصال السمعي البصري الدكتور محمد المعزوز في ورقته عن واقع التحوّلات التي يشهدها مفهوم الدولة، وذلك أمام التحدّي المتزايد الذي يرفعه الإنسان اليوم لتحقيق حاجيّاته ورغباته في العيش المختلف، وأشار إلى أنّ هذا المفهوم استنفد دوره، ولم يعد يعبّر إلّا عن سياقٍ فكري وسياسي متقادم، لأنّ عالم اليوم يطرح أسئلة جديدة تمسّ الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة والبيئة. كما تحدّث عن معنى ما بعد الدولة باعتباره إطاراً سياسياً ومعرفياً له من الخصائص ما يجعله مفهوماً مرِناً وقابلاً للتحوّل، وذلك استناداً إلى التغيّرات العميقة والسريعة التي لن تنتهي أبداً، والتي ستكون مرتبطة بالإنسان المتحوّل والمتجدّد نفسه.
بعد ذلك تناولت المديرة العامّة لإدارة التعاون الدولي والمنظّمات في هيئة حقوق الإنسان السعودية الدكتورة آمال يحيى المعلمي في ورقتها، ما يخصّ المملكة العربية السعودية، وأشارت إلى كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الافتتاحية لرؤية 2030، “هدفي الأوّل أن تكون بلادنا نموذجاً ناجحاً، ورائداً في العالم على الأصعدة كافّة، وسأعمل معكم على تحقيق ذلك”، ورأت أنّ هذه العبارة فيها تأكيد على أهمّية المشاركة المجتمعية في تحقيق الرؤية الوطنية. كما أشارت إلى كلمة سموّ ولي العهد صاحب السموّ الملكي الأمير محمد بن سلمان في مقدّمة الرؤية “طموحنا أن نبني وطناً أكثر أزدهاراً يجد فيه كلّ مواطن ما يتمناه.. نسعى إلى مرحلة تنموية جديدة غايتها إنشاء مجتمع نابض بالحياة، يستطيع فيه جميع المواطنين تحقيق أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم في اقتصاد وطني مُزدهر”. وأكّدت أنّ هذه العبارة تجسّد منهجاً واضحاً بالتزام الدولة تجاه المواطنين والمقيمين على أرضها، وأيضاً الدور المُناط والالتزامات الواجبة على المواطن والمُقيم. وشدّدت على أنّ الأساس هو الانطلاق من الانتماء للوطن الذي أرسى قواعده الرسول الكريم (ص) في وثيقة المدينة .
واشارمؤسّس منتدى الثلاثاء الثقافي في السعودية الأستاذ جعفر الشّايب في ورقته “المجتمع المدني وقضايا المواطنة” إلى وجود اعتقاد بأنّ مؤسّسات المجتمع المدني بمختلف أشكالها، تشكّل حاضنة مناسبة للارتقاء بالعلاقة بين النشطاء والعاملين فيها إلى مستويات تتجاوز الأطر التقليدية للعلاقات، وخصوصاً في المجتمعات غير المعصرنة، كالعائلية والدينية والطبقية، إلى أطر أكثر شمولية كالوطنية، بل وترتقي إلى الإطار الإنساني الشامل في حالات عدّة. ولفت إلى أن المؤسّسات المدنية تسهم في تعزيز مفاهيم أساسية كالمواطنة والمشاركة، وتحقّق صيغاً متجدّدة لمفاهيم الدولة الوطنية الحديثة ، والتي سيكون لها نتائج إيجابية في تحقيق الوحدة الوطنية.
فيما ركّزت الأكاديمية والباحثة الكويتية سهام الفريح في ورقتها على أنّ مفهوم المواطنة معنى وتطبيقاً من دولة لأخرى باختلاف الثقافات والحضارات والعقائد والقيم ومستويات النضج السياسي والفكري، لذا من الصعب الأخذ بمفهوم جامع مانع للمواطَنة، فلا بدّ من توفّر مجموعة من المقوّمات الأساسية المشتركة، التي بها يتّضح مفهوم المواطنة، وتتجلّى منها سلوكيّات الفرد المواطن من حقوق وواجبات تجاه الدولة، ومن الدولة تجاه المواطن في الحياة اليومية.
دور العلوم الاجتماعية والإنسانية
بعد ذلك عُقدت جلسة بعنوان “ما هو دور العلوم الاجتماعية والإنسانية في تجديد الفكر العربي؟” أدارها الأكاديمي في الجامعة اللبنانية الدكتور عدنان الأمين، وركّزت على تبيان دور العلوم الإنسانية والاجتماعية في تجديد الفكر العربي، وتقدّم الدول والمجتمعات العربية.
وعرّفت مديرة مجلّة الكراسات التونسية الدكتورة حياة عمامو العلوم الإنسانية والاجتماعية على أساس عدم انتمائها إلى العلوم الطبيعية أو العلوم المتعارف على تسميّتها بـ “الصحيحة”، التي تدرس كائنات وأجساماً واقعية، معتمدةً في ذلك على منهج علمي صارم، خلافاً للعلوم الإنسانية ذات الصعوبات المنهجية، بسبب بحثها في أمور غير مستقلّة عن الكائنات البشرية التي تدرسها، ممّا أنتج العديد من النقاشات الأبستيمولوجية عن المقاييس العلمية والموضوعية لهذه العلوم. وقسّمت أهمّ الاختصاصات في العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى أربعة محاور هي: تطوّر المجتمعات، التفاعلات الاجتماعية، النظام المعرفي، الإنسانيات، علوم اجتماعية تطبيقية.
وطالبت عمامو بأن يتمّ إعطاء العلوم الإنسانية والاجتماعية المكانة التي تستحقّ في سياسات الدول العربية، وتخوّل إنتاج فكرٍ يقوم على معطيات دقيقة ومناهج علمية يمكن أن توفّر حلولاً لمشاكل وأزمات هذه الدول، ويمكنها أيضاً مقارعة الفكر في العالم ليكون الفكر العربي الجديد حلقة من حلقات الفكر العالمي، يشترك معها في فهم الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويسهم معها في حلّها لا أن يستورد منها فهماً وحلولاً تزيد من تعقيد الأزمات وتأبيد التخلّف.
وأكدت أنّ تجديد الفكر في العالم العربي يجب أن يستهدف التربية والتعليم والثقافة، كما يجب أن تتوفّر مراكز البحث الجادّة والإمكانيّات المادية اللازمة، ويُفتح باب النقاش عبر وسائل الإعلام لإنارة الرأي العامّ حول القضايا الكبرى، مثل الدين والسياسة والأخلاق وتلاقح الحضارات والديانات.
وتحدّث مستشار وزير الثقافة لتطوير المنظومة الثقافية الدكتور سعيد المصري عن مستقبل العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، واضعاً في عين الاعتبار أنّ أيّ رؤية لمستقبل العلوم الاجتماعية عربياً ينبغي أن تتجاوب مع تحديّات وفرص عمليات إنتاج وتداول المعرفة العلمية عالمياً، مذكّراً بأنّه لا مجال لأيّ تقدّم علمي عربي يكرّس الانفصال عمّا يجري من تطوّرات معرفية عالمية. ورأى أنّ هناك فرصاً يمكن من خلالها تجاوز نقاط الضعف ومنها، وجود بنية تكنولجية رقمية، اتّساع فرص التعاون الدولي، وجود طلب سياسي على العلوم الاجتماعية، اتّساع الطلب الاجتماعي على التنمية البشرية. وطرح كذلك الأوليات الأكاديمية المطلوبة لتعزيز الاهتمام بالعلوم الإنسانية وهي: تعزيز المبادئ والمعايير الدولية فى الجودة العلمية، التفاعل بين التخصّصات المختلفة لإنتاج معرفة بينية.
وتحدّثت المديرة العامّة لمنظّمة المرأة العربية الدكتورة فاديا كيوان عن تجربتها أثناء عملها، وطالبت علماء الاجتماع بأن يبحثوا في القضايا التي تهمّ حياة الناس اليومية وليس المسائل العقائدية فقط، وهذا الأمر فيه رسالة إلى المعنيين بالعلوم الاجتماعية، إذ إنّ العلم ليس للعلم، فالعلم للعمل، العلم يجب أن يكون له فائدة وبالتالي هذا الجسر لم يمتدّ بما فيه الكفاية بين من عليهم أن يصنعوا السياسات، ومن يحاضروا في المعارف اليقينية.
وذكرت ثلاث ملاحظات صادفتها أثناء العمل في التدريس أوّلها: أغلب العاملين في الحقول الأكاديمية يقومون بدراسات وصفية وليست تحليلية، تغيب عنها الروح النقدية، وفي الأغلب تغيب عنها المسألة البحثية نفسها، فضلاً عن غياب قاعدة المعلومات حول البحوث المقدّمة في الجامعات، ويلاحظ بأن نفس العناوين تتكرّر بشكل دائم في جميع الجامعات، في حين ترفض بعض الجهات الرسمية إنشاء قاعدة معلومات تخدم الباحثين في الشأن الأكاديمي.