من قال إن المال لا يشتري كل شيء؟!
(صحيح) من قال هذا الكلام الفارغ؟!.
فجميع الدراسات الاجتماعية أثبتت استعداد الناس لفعل أي شيء – وبيع أي شيء – مقابل المال.. صحيح أن للبعض مستوى عالياً من الكرامة وعزة النفس ولكن (حتى هذه) يمكن الصعود فوقها عند سعر معين؟!
هذه المعادلة تذكرتها قبل أيام حين شاهدت لقطة طريفة من برنامج يدعى «أي شيء من أجل المال» (وهو برنامج كنت أتابعه قبل سنوات على القناة السعودية الثانية).. ورغم أن البرنامج من نوع «الكاميرا الخفية» إلا أن اهتمامي به لم يكن بسبب طرافته وخفة دمه بل لأنه يضرب على وتر حساس يشترك فيه كل الناس.. وتعتمد فكرة البرنامج على نزول المذيع للشارع وطلب أشياء غريبة من المارة مقابل المال. وغالباً لا يوافق الناس على طلباته الشاذة (بل قد يستهجنونها في البداية) فيعرض عليهم 10 دولارات ثم 20 ثم 30 ثم 40 ثم 50 دولاراً حتى يصل لسعر يوافقون عنده.. ولأن مستوى الكرامة يختلف من شخص لآخر هناك من يوافق فوراً مقابل عشرة أو عشرين دولاراً في حين لا يقبل البعض إلا عند مائة ومائتي دولار (ولكن في النهاية.. يوافق الجميع).. فعلى سبيل المثال أوقف المذيع ذات يوم رجل أعمال محترماً (يلبس نظارة سوداء ويحمل حقيبة دبلوماسية) وقدم نفسه على أنه «خبير تجميل» وطلب منه تجربة عينة من «المكياج» الذي تنتجه شركته. بالطبع رفض رجل الأعمال هذا الطلب وقال ضاحكاً لماذا لا توقف امرأة تجرب عليها هذه المستحضرات؟ فرد عليه المذيع لدينا دراسات كثيرة على النساء ولكننا نجهل تأثير مساحيقنا على بشرة الرجال لهذا سأعطيك عشرة دولارات مقابل تجربتها عليك (في الشارع). وحين رفض الرجل مجدداً وهم بالانصراف لاحقه المذيع بإصرار وظل يرفع السعر حتى وافق عند 120 دولاراً ووقف في الشارع يجرب أحمر الشفايف ومبيض الخدود (رغم أنه ادعى في البداية تأخره عن اجتماع رسمي مهم).
أما أغرب موقف رأيته فكان محاولة شراء «البناطيل» التي يلبسها الناس في الشارع. فقد ادعى أنه خبير في إحدى شركات النسيج وأن مهمته اختبار جودة «البناطيل» التي يلبسها الناس (بعد استعمالها). ولأن معظم الناس يرفضون خلع ملابسهم في مكان عام بدأ عرضه بثلاثين دولاراً (بالإضافة إلى سعر البنطلون). وفي إحدى المرات استوقف امرأة شابة وطلب منها شراء البنطلون الذي تلبسه فرفضت وهي تضحك مستهجنة هذا الطلب. ولكنه ظل يرفع السعر حتى وصل إلى 260 دولاراً فوافقت عندها على خلعه في الشارع (… وبالطبع قُطعت اللقطة عند هذا الحد)!!
.. وفي سبتمبر الماضي قرأت عن دراسة – تصب في نفس الموضوع – قام بها ماكسميليان لوكا رئيس قسم الاجتماع في جامعة برلين (شملت دولاً ثرية مثل المانيا وفرنسا والدنمارك واليابان وأخرى فقيرة مثل بنجلاديش وكولومبيا والسنغال والبيرو). وقد وضع لوكا نقاطا تحدد المستوى الذي يتنازل عنده المرء عن كرامته – وربما عرضه وزوجته – مقابل مبلغ مالي معين. وتضمنت دراسته أسئلة موحدة مثل: عند أي سعر تقبل قتل رجل لا تعرفه؟ وبكم تتنازل عن أحد أطفالك؟ وكم تقبل لبيع كليتك أو إحدى عينيك؟ وبكم تتغاضى عن نوم زوجتك مع رجل آخر؟..
ورغم أن الجميع وافق في النهاية (عند ثمن يوازي كرامته) إلا أن لوكا اكتشف أن السعر يزيد وينقص بحسب الثقافة والتعليم ومدى احترام القانون؛ فقد لاحظ مثلاً أن سكان الدول الفقيرة يوافقون بسرعة على هذه الطلبات (باستثناء التنازل عن الزوجة) في حين لم يوافق مواطنو الدول المتقدمة على قتل الغير إلا بعد أن تجاوز السعر مليون دولار.. ورغم مظاهر الأنفة التي لاحظها في فرنسا واليابان إلا أن معظم الرجال وافقوا على بيع كلاهم وتأجير زوجاتهم مقابل مبلغ يقل كثيراً عن قتل رجل مجهول!!
شاعر عربي حكيم، قال:
النفس تطمع والآمال عاجزة
والنخوة تهلك بين اليأس والطمع!!