معارف

التغيير حتمي لأن الأزمنة متغيرة بالضرورة

إذا وضعنا مقولة ابن القيم حول تغير الفتوى حسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد فإننا سندرك أن التغيير حتمي لأن الأزمنة متغيرة بالضرورة ، ومثلها الأحوال التي تتبدل وتتقلب بلا هوادة ، وتبعا لذلك سوف تتغير حاجات الناس وعوائدهم ، وكل ذلك هو تحول ظرفي حتمي ، وعليه سوف تتغير الفتوى حتميا وتأكيدا ، ومن هنا سيأتي الاختلاف ، اختلاف الأحوال واختلاف الأفهام ، وعلامة ذلك ما صار في زمن الصحابة من تعدد في الرأي والتصور ، والصحابة قوم عدول – حسب المتفق عليه بين عموم المسلمين – مما يعني أن الاختلاف لا يطعن في عدلية أي من الأطراف ، كما أن الصحابة أنفسهم لم يعهد عنهم التشدد في مواقفهم من بعضهم البعض بسبب اختلافات الآراء الفقهية تحديداً ، ولم تحدث فرقة إلا في المسائل السياسية دون الفقهية . وكذلك فإن خلافات السياسة لم تجنح بهم إلى التكفير وإن أشهرت الأسلحة .

وتبعا لهذا كله فإن الخطاب الديني كله سيعتمد كليا على قدرات الفقيه من حيث وعيه بشروط زمانه ، ثم وعي من يأتي بعده ليدرك أن تغير الزمان يفرض معه مسؤولية إضافية في تجنب التقليد لآراء كانت لزمانها من رجال عاشوا شرط زمانهم ، وعلى من لحق من بعدهم أن يسعه ما وسع سابقيه في الفهم والتصرف والتصور .

هذا معنى جوهري لحتمية التغير الذي سيكون بمثابة القيمة الأولى للوسطية ، وإن كنا رأينا كثيراً أن الأفهام تميل في تشخيص الوسطية بأنها الموقف الوسط بين طرفين ، أو ما يمكن أن نسميه بالطرفية كمقابل للوسطية ، إلا أننا قد نجد معنى آخر إضافياً للوسطية  بأنها توسط بين حقوق الدين من جهة وحاجات الناس من جهة أخرى ، أي أن حتمية التغير الظرفي كما عند ابن القيم يقابله تغير في أمور الرؤية الدينية ، وهنا ستمضي السنن الثقافية حسب معهودها من ميل فطري عند عموم الناس نحو الاحتكام إلى مصالحهم الخاصة وطلب غطاء معنوي وتبريري لها من أهل الإفتاء ، وهنا تقع خطورة أن يجري سحب الدين حسب مبتغى الأهواء ، وفي المقابل سنرى أن فئة ستقاوم هذه الميول فتحاول دفع الناس باتجاه التمسك بما هو من سالف الأقوال من باب التورع والتحوَط والتحصَن ضد نزعات النفوس ، ولكنها في هذه الحال ستقسر الناس على أن يعيشوا وفق نظام لا يمت لحاجات زمانهم ، وسيجري إنكار تغير الأزمنة والأحوال والعوائد ، مع أن التغير حاصل من دون استئذان ولا تريث ، مما يجعل الدين يبدو خارج إطار الزمن وخارج إطار المستطاع البشري .

هنا تأتي الوسطية لتقوم واسطاً وواصلاً معرفياً وخلقياً بين حق الدين حسب مقاصد الشرع العليا وحاجات الناس بوصفها قيمة معنوية وحقاً إنسانياً تتحقق معه طاعة العبد لربه على بصيرة ورضا .

الدكتور عبدالله الغذامي

  • من كتابه “الفقيه الفضائي”، المركز الثقافي العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
ابدأ المحادثة الان
تحتاج مساعدة؟